بقلم: عصام زكريا
اقتربت من الناقد السينمائي سمير فريد من خلال عملنا في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الذي ترأسه لدورة واحدة يجمع الكثيرون الآن أنها كانت من أفضل دوراته.. بالرغم من أننا التقينا كثيرا على فترات متباعدة لأكثر من ربع قرن، كانت أولها عندما تولى رئاسة مهرجان الاسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة، وكنت لا أزال صحفيا تحت التمرين في مجلة "روز اليوسف" سافرت لتغطية المهرجان لأول مرة في حياتي... هذا المهرجان الذي أتولى رئاسته الآن بينما رحل سمير فريد عن عالمنا، وهو ما يترك في نفسي غصة وحزن مضاعف لأنني كنت أتمنى أن أقرأ أو أستمع إلى رأيه في دورة المهرجان القادمة.
سمير فريد كان واحد من أغرز المصريين إنتاجا ، وأكثرهم انتظاما ، وتنظيما ، ومنهجية. وهو جمع خلال سنوات عمله التي تزيد عن نصف قرن بين مهن مختلفة : الناقد السينمائي المتخصص في كتابة الدراسات العلمية حول الأفلام وصناعها، والصحفي السينمائي الذي يجري الحورات ويكتب الأخبار والتحقيقات الفنية، وكاتب المراجعات الصحفية للأفلام والمهرجانات، والمؤرخ السينمائي، والناشط الثقافي الذي يدير وينظم المهرجانات والبرامج . وفي كل هذه المهن سوف تلاحظ أن سمير فريد يملك عقلا علميا منظما ودقيقا مثل ساعة سويسرية .
عرفت سمير فريد من خلال كتبه الكثيرة التي قرأتها، والتي أحتفظ بمعظمها، إن لم يكن كلها، في مكتبتي. وقبل أن ألتحق بمهنة الصحافة، عندما كنت لا أزال هاويا للسينما والثقافة، كانت قراءة كتبه ومقالاته الصحفية شيئا أساسيا بالنسبة لتكويني الثقافي، وربما لجيلنا كله. كانت أحكامه القاطعة، والقطعية أحيانا، على الأفلام والسينمائيين المصريين والعالميين تفرض نفسها على أذواقنا وآرائنا الغضة ، ولم نكن نستطيع أن نقيمها أو نقاومها أو نتفق ونختلف معها إلا بعد سنوات طويلة من الخبرة والنضج .
لا شك أنه من ناحية التأثير فإن سمير فريد هو صاحب الشخصية الأقوى والأكثر نفوذا من بين النقاد، وهو ما أكسب كتاباته نوعا من السلطة، يتهافت على كسب ودها السينمائيون، ويحسده عليها النقاد.
امتلك سمير فريد نفوذا "بطريركيا" مخيفا يتمناه أي ناقد. وهو ينتمي لجيل مسيس من النقاد الذين بدأوا عملهم في ستينيات القرن الماضي وانصهروا وتشكلوا داخل دوامة من الأفكار والسياسات والثورات والمذاهب والتيارات السينمائية والأفلام المتميزة التي ظهرت في الستينيات.إنه العقد الأكثر أهمية، ربما، في تاريخ السينما العالمية، وهو أيضا العقد الأكثر أهمية في تاريخ مصر الحديث، والأكثر صخبا بالطموحات والانكسارات والآمال والآلآم.
تركت السياسة بصمات كثيرة بارزة على كتابات هذا الجيل ومنهم نقاد السينما . وهؤلاء نقلوا إلينا تصورا عن الفن يمزج بين التذوق الجمالي والموقف السياسي بشكل ليس فقط يصعب التخلص منه ، ولكن أيضا يجعل محاولة التخلص منه مصحوبة غالبا بشعور الذنب الأخلاقي والوطني..وهو تصور بدت بسببه قضية الفصل بين الفن والسياسة أشبه بمعركة الفصل بين الدين والسياسة التي أهدرنا فيها أعمارا.
كان سمير فريد واحدا من أكثر أعلام هذا التصور طلاقة وحماسا، ولكنه كان أيضا من أوائل الذين تمردوا على هذا التصور من داخل معسكره.
في الحقيقة تسببت محاولات سمير فريد المبكرة للتخلص من التصور الدوجماني المتصلب للفن بإعتباره نشاطا سياسيا ملتزما ووطنيا، وربما أيضا "قوميا" و"إشتراكيا" بالضرورة، تسببت في صراعات كثيرة معلنة وغير معلنة مع زملاء المهنة ومثقفي الستينيات والقراء "المسيسين" ..ولكن الزمن، أفضل حاكم وقاض، أثبت أن سمير فريد كان صاحب رؤية أبعد ورأي أثقب في معظم هذه المعارك ..وهي معارك لاتزال مستمرة بالمناسبة بأشكال وأسماء مختلفة. في كل هذه المعارك – تقريبا – سوف تلاحظ أن سمير فريد يقف على ضفة النهر الأكثر تقدمية وليبرالية والأكثر إيمانا بالمستقبل والشباب.
من بين أبناء جيله والجيل الذي يليهم، ستجده مثلا أول من رحب وتبنى "السينما المستقلة" وصناعها، وأول من رحب واحتفى بالصحافة السينمائية ومجلات السينما الجديدة من "الفن السابع" وحتى "سينما جودنيوز"، وأول من رحب بالأفكار والأساليب الجديدة للمخرجين الشباب. ولو تابعت عموده اليومي الذي كان ينشر في صحيفة "المصري اليوم" لسنوات طويلة ستجد أنه لم يترك عملا أو نشاطا سينمائيا شبابيا لم يقم بتحيته والتنويه به حتى لو كان الكثير منها لا يستحق ..ولكنه الموقف المبدئي والإيمان الثابت بالمستقبل .
يجب أن أذكر أنني أختلف مع سمير فريد وخالفته في العديد من المرات، حول أفلام أو شخصيات أو آراء سياسية .. وفي أكثر من مرة انتقدته علنا في كتابات منشورة، ولكنه ، للحق ، لم يحول هذا الخلاف أو ذاك إلى خصومة شخصية، وعلى العكس أبقى على العلاقة الطيبة والاحترام المتبادل بيننا ، ولم يسع أبدا كعادة المصريين إلى البحث عن، أو اختراع ، أسباب ودوافع وهمية وراء هذا النقد.
يقودني هذا إلى الجانب الثاني الذي تعرفت من خلاله على سمير فريد، وهو التعارف الشخصي والزمالة التي ربطت بيننا بعد أن أصبحت أنا أيضا صحفيا وناقدا سينمائيا يجمع بيننا العمل حينا والمناسبات السينمائية أحيانا.
أتذكر ، عندما كنت أقوم بإعداد مقدمة لترجمتي لرواية "العار" للكاتبة البنجالية تسليمة نصرين في حوالي عام 1996، أن الأستاذ سمير عرف ذلك بالصدفة أثناء حوار بيننا فدعاني لزيارته وأعطاني ملفا صحفيا قام بجمعه عن الكاتبة وأعمالها. وحتى يدرك القارئ قيمة هذا الملف عليه أن يتذكر أن العالم وقتها كان بدون جوجل أو ويكيبديا، ومصر كانت بدون انترنت . ولم يكن لدينا أرشيف أو مصادريمكننا الرجوع إليها سوى ما نقوم بجمعه في بيوتنا من كتب ومجلات وجرائد وقصاصات صحفية بكل اللغات التي نعرفها . أضف إلى ذلك أن العلاقة بيننا كانت مجرد تعارف مهني ، وأضف إلى ذلك أنه لم يطلب استعادة ذلك الملف، الذي مازلت أحتفظ به إلى الآن.
كان سمير فريد يملك أرشيفا فيلميا و ورقيا مصنفا على الطريقة القديمة يضاهي أرشيفات المؤسسات الكبرى التي نهبت معظم أرشيفاتها على مدار السنين، وما فعله معي لم يكن استثناءا ، ولكنها طبيعته وعادته ، وقد أخبرني الكثيرون عن مساعدات مماثلة قدمها لهم بدون سابق معرفة.
سمير فريد كما ذكرت، كان لديه حماس مبدئي لكل جديد وللشباب، وهو كثيرا ما ساعد أو تبنى "مواهب" تبين فيما بعد أنها متواضعة ، وهو أمر طبيعي بالمناسبة ، لأنك إذا كنت تنوي تشجيع الجديد فليس دورك أيضا أن تعقد الاختبارات والتقييمات قبل أن ترى هذا الجديد. البستاني لا يمكنه تنقية الزهور السليمة من المريضة قبل أن يسقيها ويرعاها لتنمو أولا..أو كما يقول المثل الشعبي الدارج : "لأجل الورد..ينسقي العليق"...وقد سقى سمير فريد كثيرا من الزهور الرائعة، وبعض "العليق"، ولكن في النهاية، لن يحتفظ التاريخ سوى بالأعمال والمواهب الرائعة التي بشر بها، وبالكتابات البديعة التي أمتعنا بها، وبقيت للأجيال القادمة.